أغلبنا بالتأكيد يتذكَّر تلك الأوقات الجميلة التي كنا نلتفُّ فيها حول جدَّاتنا وأمَّهاتنا وآبائنا لنستمع إلى حكاياتهم الجميلة، وما زلتُ شخصيًّا، وإلى الآن، أحب الاستماع إلى حكايات أبي المشوِّقة بنفس القدر من الانبهار والدهشة؛ خاصةً لأنه يمتلك مهارات جيدة في الحَكْي وجذب المستمع لحكاياته، حتى وإن كان يسمعها للمرة الألف.
فما هي ورشات وجلسات الحكي للصغار؟ وما آليَّتها؟ وهل مهارات الحكي موهبة فطرية أم مهارة مكتسبة؟ كيف يمكنني أن أكون راويًا جيدًا للقصص وأجذب انتباه الصغار؟ دعونا نتعرّف على ذلك في السطور القادمة.
موهبة فطرية.. أم مهارة مكتسبة؟
سؤال قد يخطر على بال الجميع: كيف أروي القصص للصغار؟ وكيف أكون تلك الرَّاوية الجيدة التي بإمكانها جذب انتباه الجمهور الصغير؟ كيف أفعل ذلك وطفلي لا يُعِيرني انتباهه؟ هل المسألة موهبة فطرية؟
قد تقول الأم في نفسها: أنا لست جيدة أبدًا في قراءة القصص لصغاري.. أنا لم أقرأ بصوت جهوري وأمام أحد منذ كنت في المدرسة. وقد تتهرب وتقول: لا أعرف كيف أحكي القصص! ليست لديّ تلك المهارة!
أقول لكِ: هوِّني عليكِ يا عزيزتي؛ فالأمر ليس بهذه الصعوبة أبدًا. صحيح أن البعض لديه تلك الموهبة الفطرية في حكاية القصص وجذب انتباه الآخرين، لكنّ تعلُّم المهارة واكتسابها ليس بالأمر الصعب. فقط، خذي نفسًا عميقًا وابدئي بتعلُّم تلك المهارات، ومع الممارسة وكثرة التطبيق، ستصبحين بارعة في الحَكْي، وستجذبين انتباههم بكل تأكيد.
“راوي القصص (الحكواتي) هو أقوى شخص مؤثر في هذا العالم؛ فهو يصيغ رؤية الجيل القادم وقيَمِه ومفاهيمه”. هكذا كان ينظر (ستيف جوبز) إلى دور راوي القصص (الحكواتي). استحضري تلك المعاني العظيمة، وأهمية جلسات وورشات الحكي وأثرها على الصغار؛ لتمنحكِ دافعًا للمُضي قدمًا في تعلُّم مهارات واستراتيجيات جلسات وورشات الحكي، وكيفية التخطيط لها وإدارتها.
آليّة جلسة الحكي وخطواتها
من خلال تجربتي الشخصية في عمل جلسات حكي مع أولادي، وتنظيم العديد من ورشات الحكي مع أطفال آخرين على مدار أشهر عديدة، يمكنني أن أعرض لكم الخطوات والهيكل العام لآلية ورشة الحكي، وكيفية تنظيمها وإدارتها. وسأقسم الحديث إلى عناوين رئيسة، تمثل المراحل التي يمر بها الإعداد لورشة حكي منظمة ومفيدة، وتنفيذها بالفعل. وتندرج تحت كل من تلك المراحل عناوين أخرى فرعية تفصِّل الأمر أكثر بطريقة سهلة.
قسَّمت آلية تنظيم وتطبيق جلسة/ ورشة الحكي إلى ثلاث مراحل رئيسة، وهي:
– مرحلة التجهيز والإعداد.
– مرحلة الحكي وإدارة الجلسة/ الورشة.
– مرحلة ما بعد الحكي، أو مرحلة الأنشطة المصاحبة.
أولًا: مرحلة التجهيز والإعداد
1- تجميع الأطفال:
سيكون من السهل تجميع أطفالك في المنزل خلال جلسات الحكي المنزلية، أما في حال إقامة ورشة حكي عامة تضم العديد من الأطفال، فقد تتساءلين كيف أجمع الأطفال؟ وكيف أعلن عن الورشة بالأساس؟
يمكن أن تعلني عن الورشة في محيطك العائلي لتضم الورشة أطفالك وأطفالا من العائلة فقط، أو يمكنكِ الإعلان عنها في نطاق عمارتكِ السكنية لتضم أطفالكِ مع أطفال الجيران، أو في محيط أصدقائك وأصدقاء أطفالكِ المقرَّبين من المدرسة أو النادي، أو يمكنكِ الإعلان عنها في نطاق محيطك السكني الضيق، أو بالاتفاق مع المكتبة العامة بالقرب منك… إلخ. اختاري ما يناسبكم ويوافق أهدافكم.
من خلال تجربتي الشخصية، ففي المرة الأولى التي أقمت فيها ورشة حكي، أعلنت عنها على مجموعة فيسبوك مغلقة خاصة بمحيطي السكني، وبعدها اتفقت مع المكتبة العامة في مدينتنا. وفي المرة الثانية، أعلنت عنها في محيط أصدقائي وأصدقاء أطفالي.
احرصي أيضًا أن يكون الأطفال في ورشة الحَكْي من فئة عمرية متقاربة نوعًا ما، وذلك ليسهل اندماجهم، ويسهل اختيار نوع القصة لهم، وكذلك يسهل تحديد الأنشطة المناسبة لهم.
2- البيئة والمكان المناسب:
في جلسة الحكي المنزلية مع أطفالك، اختاري مكانًا مناسبًا ومريحًا وبعيدًا عن المشتِّتات والمُلْهيات، ليكون هو المكان الدائم الذي تجتمعون فيه لجلسة الحكي، حبذا لو يكون بالقرب من نافذة أثناء ضوء النهار، ويكون بعيدًا عن منطقة الألعاب والتلفاز وأي مشتتات أخرى.
أما في ورشات الحكي العامة، فيمكنك الاختيار بين المكتبة العامة أو الحديقة العامة، ومع ذلك فتفضيلي الشخصي هو الحديقة العامة، حيث الطبيعة الجميلة وضوء النهار المنعش. وحبذا لو تم تجنُّب الاجتماع في مكان مغلق، كأحد المنازل مثلًا؛ فالمكان المناسب يؤثر كثيرًا في سير ورشة الحكي وإدارتها وتنظيمها، كما يؤثر على مزاج الأطفال وتقبُّلهم للاستماع والتفاعل مع الأنشطة.
3- الوقت والمدة:
تثبيت يوم ووقت محدد لجلسة/ ورشة الحكي أمر مهم للغاية؛ فتثبيت اليوم يرسِّخ تلك العادة، بحيث يكون الطفل مهيَّأً ومستعدًا لها. أما الوقت الذي تستغرقه الورشة فنقسِّمه إلى ثلاثة أقسام: وقت حكي القصة نفسها، ويستغرق ما بين 15 إلى 20 دقيقة على الأكثر، ووقت المناقشة والأسئلة حول القصة، ويستغرق أيضًا ما بين 15 إلى 20 دقيقة، ووقت الأنشطة المصاحبة الحسية والحركية والفنية، وهذا في الغالب يكون وقتًا مفتوحًا حسب حب الأطفال واستمتاعهم بالأنشطة، وهم وحدهم من يقررون متى ينتهون منها. وفي خلال هذا الوقت الأخير لا يُطلب منكِ (من الحكواتي) التواجد بشكل كامل مع الأطفال؛ بل يمكن تركهم يبدعون بمفردهم مع الإشراف عليهم بين الفينة والأخرى.
4. اختيار القصة
يجب اختيار القصة قبل الورشة بوقت كافٍ بحيث تتمكَّنين (يتمكن الحكواتي) من الاطلاع عليها بشكل جيد، والتدُّرب على كيفية إلقائها على الأطفال، واستخلاص الأفكار واستلهام الأنشطة المصاحبة المناسبة لها.
وهنا، قد يتبادر إلى الذهن سؤال عن نوعية القصص المناسبة لورشات الحكي، وهل تصلح كل القصص لورشات القراءة والحكي؟ في الغالب، يعتمد اختيار نوع القصة على عمر الأطفال، واهتماماتهم، وخبرة الحكواتي، وقدرته على جذب الاهتمام. وغالبًا ما تكون القصص ذات الحبكة الجيدة هي النوع الشائع أثناء الاختيار، على أنه يمكن بين الحين والآخر اختيار القصص الصامتة، والقصص العلمية، أو تلك التي تكون بدون حبكة.
نختار القصص التي تغرس سلوكًا أو قيمة خلقية أو دينية، وأن تكون القصص قصيرة نوعًا ما لتجنب الملل، وحبذا لو تكون ذات سجع محبب للأذن، وجمل متكررة؛ لضمان اندماج الأطفال وتفاعلهم معها.
ثانيًا: مرحلة الحكي
هذه هي المرحلة التطبيقية المهمة، والتي يجذب فيها الراوي انتباه الصغار، ويُظهر مهاراته المختلفة للوصول إليهم، ودمجهم في عالم الاستماع إلى القصة. وتبرز هنا أهمية المهارات الشخصية الخاصة بشخصية الراوي (الحكواتي)، والتي يمكن- بالطبع- العمل على تعلمها وتنميتها وصقلها.
ومن أهم تلك المهارات:
1- نبرة الصوت والمشاعر:
يجب أن تقومي بتغيير نبرة صوتك وخفضها ورفعها بما يتناسب مع أحداث القصة؛ فلا تسيري بنفس الوتيرة طوال فترة القراءة والحكي؛ لأن ذلك يبعث على الملل ويسبب الضجر للطفل. يجب أن تعبر نبرات صوتك عن المشاعر المختلفة المتضمَّنة في القصة؛ فالسؤال يجب أن يكون بنبرة استفهامية مختلفة عن الجملة الخبرية العادية. يرتفع الصوت ويكون سريعًا مع أحداث الفرح والسعادة، وينخفض ويصبح بطيئًا عند أحداث الحزن والإحباط، ويصبح قويًّا عند أحداث الغضب، وضعيفًا عند أحداث الخوف… إلخ.
2- التفاعل والحركة وتعبيرات الوجه والجسم:
تفاعلي مع أحداث القصة، ولا تجلسي في نفس الموضع، أو تقفي ساكنة في نفس المكان أثناء الحكي. تحرَّكي يمينًا ويسارًا، ارفعي يديك ولَوِّحي بهما مع أحداث القصة، اصنعي دوائر بيديك، دُوري حول الأطفال، وغيري من ملامح وجهك حسب أحداث القصة. يحب الأطفال كذلك الحركة، فأشركيهم أثناء الحكي، واطلبي منهم فعل ما يفعله أبطال القصة، كأن تطلبي منهم التصفيق باليدين، أو رفع إحدى اليدين، أو صنع دوائر بالهواء، أو النفخ في اليدين، وغيرها من الأفعال الحركية، وتذكَّري أن الأطفال يتذكرون المعلومات التي تكون مرتبطة بالأفعال الحركية بنسبة 60%، في حين أنهم يتذكرون 30% فقط من المعلومات المرئية، و10% للمعلومات المسموعة.
3- استخدام الدُّمى وعرائس اليد والإصبع:
يمكن استخدام دمية أو عروسة يد على شكل أحد الحيوانات الظريفة، لتصاحبكِ في كل ورشة حكي، وتكون بمثابة شخصية أخرى، تساهم في الحكي، ويتفاعل معها الصغار. أو يمكن اختيار دمية أو عروسة يد مختلفة في كل مرة، بحيث تتناسب مع أحداث القصة وشخصياتها، فالخيار يعود إليكِ. هذه الاستراتيجية مناسبة أكثر مع الأعمار الصغيرة التي ترتبط بتلك الدُّمى وتتفاعل معها.
4- تقمُّص الأدوار:
تقمَّصي دور كل شخصية من شخصيات القصة، وغيِّري نبرة صوتك لتحاكيها. أيضًا يمكنكِ من خلال الحركات المعينة تقمُّص دور كل شخصية، ويمكنكِ تغيير اتجاه وقوفك حسب كل شخصية. على سبيل المثال: إذا كان ضمن أحداث القصة شخصيتان تتجاذبان أطراف الحديث، فعند التحدُّث على لسان إحدى الشخصيات، قفي ناحية اليسار، واتَّجهي بوجهكِ وجسمكِ ناحية اليمين، وكأنكِ تخاطبين الشخصية الأخرى. وعند التحدُّث على لسان الشخصية الأخرى، بدِّلي الزاوية، وقِفِي ناحية اليمين، واتَّجهي بجسمكِ ووجهكِ ناحية اليسار. يمكنكِ كذلك ارتداء زي معين مخصَّص لورشة الحكي، أو وضع قبعة، أو قناع، أو شال مميز مخصص لورشة/ جلسة الحكي.
5- النقاش وطرح الأسئلة:
هذه النقطة تكون في أثناء مرحلة الحكي وفيما بعدها، حيث يمكنكِ البَدْء أولًا بطرح سؤال عن عنوان القصة وشكل الغلاف، وتوقُّعات الأطفال لأحداث القصة، من خلال العنوان وشكل الغلاف. ثم، وفي أثناء الحكي، يمكنكِ التوقف قبل قلب كل صفحة لتسألي الأطفال أيضًا عن توقعاتهم أو عن حلولهم للمشكلات، والعقبات التي تواجه أبطال القصة. ويمكنكِ كذلك التأكد من تمام فهمهم للأحداث، وانتباههم للرسوم (إن وُجد)، بطرح بعض الأسئلة عن الأحداث، حتى تصلوا إلى نهاية القصة، فتسألينهم عن رأيهم في النهاية، وعن مقترحاتهم لنهاية أخرى، وعمَّا أعجبهم في القصة أو لم يعجبهم، وعن تصرفات أبطال القصة، وغيرها.
6- التعلم:
يمكنكِ تطوير مهاراتكِ في الحكي وجذب انتباه الصغار، بمشاهدة أساليب متنوعة في طرق الحكي، وبالتدرُّب عليها. وكذلك بحضور ورشات الحكي، ومشاهدة الحكواتيين، والاستماع إليهم والتعلُّم منهم. توجد أيضًا بعض الدورات التدريبية التي تدرِّبك على تنفيذ ورشة حكي ناجحة، وهذا المقال أيضًا مفيد في التعرُّف على المهارات والخطوات العملية اللازمة لتنفيذ جلسة/ ورشة حكي جيدة.
في المقال القادم، نتعرف- بإذن الله- على المرحلة الثالثة، وهي مرحلة ما بعد الحكي، أو مرحلة الأنشطة المصاحبة لقراءة القصة.
شكرا على السلامة والوضوح في تقديم الأفكار. وأمل التواصل مع حضرتكم لتقديمها كورشة عمل
شكرا على السلامة والوضوح في تقديم الأفكار. وأمل التواصل مع حضرتكم لتقديمها كورشة عمل
شكرا للشرح الدقيق والواضح للعمل. وارجو إعطاء عنوانين بعض القصص المفيدة للاستعانة بها من أجل مشروع الحكواتي، واتمنى ان لا تكون مواضيع دينية ولكن انسانية اجتماعية تحاكي حياة الطفل عامة