في جولة بإحدى الغابات، صادفت طريقًا ترابيًّا ضيقًا تحرسه أشجار البلوط الباسقة من الجانبين. ولجته مع ابنتيّ وكلي ثقة بأنه طريق مختصر سيأخذنا إلى الطريق العام، لكنه انتهى بنفق مظلم. بدت الحجارة المرصوفة في مدخله وكأنها أثرية، وبينما كنت أفكر ماذا يمكن أن يكون داخل هذا النفق، قالت ابنتي بمنطقها الذي لا يتجاوز الخمسة أعوام: “ربما يعيش داخلها صبي شبيه بفتى الأدخال (ماوكلي)”. أما الصغيرة فهتفت: “أو ربما نجد فيه بيضًا للديناصورات”!
على الرغم من بعض الارتعاش الذي تسلّل إلى قلبي، إلا أنني فكرت حينها بأنه لا بأس بقليل من المغامرة، لكن ما إن خطونا خطوتين في ظلام النفق، حتى سمعت صوتًا غريبًا لم أسمعه من قبل، كان مزيجًا بين العواء والصياح. بصراحة، أيًّا كان ذلك الكائن، لكنه حتمًا ليس من النوع الذي كنت أفضل أن نستكشف النفق بصحبته.
وما إن صرنا على مسافة بعيدة عن النفق وكافية لأن تستردّ نبضات قلبي انتظامها، حتى خطر لي أمر.. ماذا لو عجنت تلك الأفكار وصنعت منها قصة للأطفال (البطلة فيها طبعًا تجرأت على دخول النفق)؟ لكن قفز في رأسي حينها تساؤل: على لسان مَنْ سأروي القصة؟ هل على لسان البطلة، أم على لسان راوٍ عليم بكل ما يحيط بالقصة؟
لم أعلم حينها أن هذا التساؤل سيكلّفني ساعات طوال من القراءة والبحث على الشبكة العنكبوتية، خاصة أن الدراسات المتعلقة ببنية قصص وروايات الأطفال، وتقنيات السرد فيها، قليلة جدًا، وذلك بخلاف الحظ الوافر الذي تناله روايات وقصص الكبار. لذا، ومن باب أن الكلام لا يحلو إلا بالمشاركة، أحببت مشاركتكم بعض النقاط والمصطلحات التي أجدها ضرورية لكل كاتب، أو لكل شغوف بالاطلاع.
يعتبر الراوي ووجهة نظره من أهم العناصر في القصة، فاسمحوا لي بالتعريف والتفريق بين المصطلحين:
أولا: الراوي
الراوي هو الشخص الذي يفوّضه الكاتب تخيُّليًا ليسرد القصة أو يُخبر عنها، سواء كانت حقيقة أم متخيّلة. والراوي ثلاثة أنواع:
1- الراوي العليم أو الخبير
هذا الراوي يحلّل الأحداث من الخارج، وهو الراوي المطلّع على كامل القصة والعارف بتفاصيلها كلّها، كأنه ينتقل في الزمان والمكان دون معاناة، ويرفع أسقف المنازل، فيرى ما بداخلها وما في خارجها، ويشق قلوب الشخصيات ويغوص فيها، ويتعرّف على أخفى الدوافع وأعمق الخلجات، أي يعرف أكثر مما تعرفه كل الشخصيات. يسمح لنفسه بين الفينة والأخرى بالتدخل في الأحداث والتعليق عليها، وتُروى القصة عندها بضمير الغائب أو الشخص الثالث (هو/ هي).
ومن أمثلتها:
قصة (شمس) الصادرة عن دار نهضة مصر، للكاتبة عفاف طُبَّالة
يتحدث الراوي العليم عن علاقة البطل بأمه، فيقول في أحد المقاطع: “ها هو عمرو قد حقّق الشرط الأول. بدا حلمه قريب المنال. في السينما سيتأبط ذراعها، ويشعر بدفء جوارها، يضحكان معًا، يستفسر منها عمّا لا يفهمه. يخرجان في الاستراحة لشراء الفشار، يشعر أنه محور اهتمامها الوحيد، لن تخذله هذه المرة كما دأبت في الأيام الأخيرة…”.
قصة (تمام التمام) الصادرة عن دار مدارك، للكاتبة رانية الكيلاني
يقول الراوي العليم: “على الرغم من هذا الاهتمام، إلا أن واحدًا من التوائم اسمه تمام التمام، قالت عنه القبيلتان إنه الغريب في هذا الزمان. كان يأكل جميع أنواع الطعام باعتدال، ويشرب الكثير من الماء، وهذا سرُّ الجمال. يتوجّه إلى الأمام في المسار لا يميل يمنة ولا يسار…”.
كثيرًا ما تبنّت الاتجاهات التقليدية أو الكلاسيكية هذا الراوي في السرد.
2- الراوي اللصيق أو المصاحب أو المشارك
يحلّل هذا الراوي الأحداث من الداخل، ويكون لصيقًا بأحد الشخصيات- غالبًا بشخصية البطل- ويتحدث بلسان الشخصية بضمير المتكلم أو الشخص الأول (أنا)، وهو صانع للأحداث ومحرك لها وليس مجرّد مراقب، وهو الذي يحلّل الأحداث من الداخل، إلا أنه لا يعرف أكثر مما تعرفه الشخصية التي يتكلم على لسانها، ويكون من الأنسب استخدامه إذا أردنا التركيز على مشاعر الشخصية وتحوّلاتها.
قد يخاطب هذا الراوي القارئ؛ فيزداد الارتباط والتعاطف بين القارئ وهذا البطل، وقد يكتفي بسرد القصة دون مخاطبة.
مثال عن الراوي الذي يخاطب القارئ على لسان البطل
قصّة (فتاة الليرات الذهبية) الصادرة عن دار الياسمين، للكاتبة ماريا دعدوش
تُروى القصة على لسان البطلة (كرمة)، ففي أحد المقاطع تقول كرمة: “مدرستي اسمها مدرسة الخطوات الصغيرة، وأنا أتحضّر كي أذهب إليها الآن، لكن ليست كل الأيام التي أمضيها في المدرسة حلوة، هل تعرفون لماذا”؟
وفي مقطع آخر تقول: “هناك احتفال خاصّ في المدرسة اسمه (احتفال الثلاثين). لقد أسموه احتفال الثلاثين لأن اليوم هو اليوم الثلاثون لدوامنا في المدرسة، أليس هذا رائعًا! أحبُّ صاحب فكرة هذا الاحتفال”.
مثال عن راوٍ لصيق يكتفي بالسرد على لسان البطل دون مخاطبة القارئ
قصة (معزوفة التَّحايا)، الصادرة عن دار الحدائق، للكاتبة باسمة الوزّان
يقول البطل: “استيقظتُ قبيل الفجر على صوت عصفور عند النافذة. قفزت من سريري مبتهجًا، فقد نمت مساء بعد وصولنا من السفر، وكلي شوق لمشاهدة مناظر لطالما كرّرت أمي وصفها على مسامعي”.
مثال أن تروى القصة على لسان شخصية ثانوية (نادر الاستعمال)
قصة (الامتحان) الصادرة عن دار أصالة، للكاتبة د. عبير أنور
تُروى القصة على لسان أخت البطل فتقول: “في الصباح يمنحنا أبي مصروفنا إلا عبد الرحمن. كان ينظر إلينا نظرات منكسرة حزينة، ويهرع إلى غرفته حتى لا نرى دموعه. ذات ليلة دخلت إلى غرفته فوجدته في سريره وهو يبكي…”. فالبطل هو عبد الرحمن، أي هو من يواجه مشكلة، وهو من ستنمو شخصيته على طول القصة.
وقد تبنّت معظم التيارات الحديثة للأدب الراوي اللصيق في السرد.
3- الراوي الشاهد
هو أيضًا راوٍ يقدّم الأحداث من الخارج، إلا أنه يختلف عن الراوي العليم بأنه لا يعلم أكثر مما تعلمه الشخصيات، وقد يخّمن ما يجري فقط، لكنّه لا يفسّر الأحداث ولا يحللها ولا يتعاطف معها، بل مهّمته فقط التقاط الحدث ونقله إلى القارئ، ويمكن تشبيهه بكاميرا تلتقط بالصوت وبالصورة المشهد الماثل أمامها التقاطًا خارجيًّا ومحايدًا، وهو يركّز على تفاصيل عالم القصة، وتُروى القصة بضمير الغائب أو الشخص الثالث (هو/ هي).
ومثال ذلك:
قصة (رحلة إلى الفضاء) الصادرة عن دار الهدهد، للكاتبة ريّ عبد العال
يقول الراوي الشاهد: “هناك شيء غريب يحدث اليوم في الحديقة؛ فالقرود في كل مكان مشغولة جدًا، تروح وتجيء من مكان إلى آخر وهي تحمل حبالًا وسلّمًا وصناديق من كل الأحجام. تُرى، ماذا تفعل القرود بكل هذه الأشياء”؟!
ويشيع أيضًا استخدام هذا النوع من الراوي في الأدب البوليسي؛ من أجل أن تبقى خيوط الحبكة غير مكشوفة للقارئ. وقد تبنّت التيارات الحديثة للأدب هذا الراوي في السرد في محاولة لتقويض قدرة الراوي العليم.
أما تيارات ما بعد الحداثة فقد خطت خطوات أبعد فيما يتعلق بكسر النمطية في السرد القصصي، فتارة نجد أن الراوي أو شخصيات القصة يخاطبون القارئ نفسه، وتارة نجد الراوي يخاطب شخصيات القصة وهي تخاطبه وتتشاكس معه. وقد بتنا نرى هذا النوع من القص في بعض كتب الأطفال في عالمنا العربي في السنوات القليلة الأخيرة، وربما نفصّل في هذا النوع في مقال منفصل.
ثانيًا: وجهة النظر
لوجهة النظر عدّة مسميات؛ فقد يعبَّر عنها بـ: زاوية النظر، أو المنظور، أو الرؤية السردية، ومسميّات أخرى، لكن الشائع هو استخدام مصطلح “وجهة النظر”، وهي تعبِّر عن كيف يروي الراوي ما يرى، وكيف يسرد من خلال وجهة نظره.
إذا كانت القصة مروية على لسان الراوي العليم فتسمى وجهة النظر “الرؤية من الخلف”، وإذا كانت على لسان الراوي اللصيق فتسمى “الرؤية مع”، أما إذا كانت مروية على لسان الراوي الشاهد فتسمى “الرؤية من الخارج”.
وجهة النظر تختلف باختلاف الرّواة؛ فكل راوٍ ينقل الحدث كما شاهده هو، لا كما هو في الواقع، أو هو ينقل المقدار الذي استوعبه.
وكل راوٍ يقف على مسافة من الأحداث والشخصيات مختلفة عن الآخر؛ فعندما يقف الراوي على مسافة بعيدة عن شخصياته يؤثر ذلك على موقفه منها، ويقلل من تعاطفه معها، والعكس عندما يكون قريبًا؛ لذلك إذا تمت رواية القصة عن طريق الراوي العليم فستختلف عن روايتها عن طريق الراوي اللصيق أو الشاهد، بل يمكن أن نقدّم في كل حالة قصة مختلفة تمامًا.
لكن، كيف يمكن معرفة وجهة النظر الأنسب عندما نكتب؟ في البدء نوجّه لأنفسنا بعض الأسئلة: هل نريد التركيز في القصة على مشاعر الشخصية ونمّوها الإدراكي؟ أم على وصف العالم وتقديمه؟ أم أن المهم أكثر تحليل الأحداث والتعليق عليها في القصة؟ ثم نجرّب أن نبدأ القصة من أكثر من وجهة نظر، وبعدها نعتمد وجهة النظر التي نشعر أنها أوضحت الرسالة التي نريد إيصالها.
في النهاية نبرز أكثر خطئين شائعين أثناء استعمال الرواة في السرد:
- الراوي العليم هو من أخطر الرواة في السرد؛ فهو يعرف كل شيء ويكشف كل الأوراق، مما يجعل النص عاديًّا خاليًا من المتعة والتشويق، ما لم يتحكّم الكاتب في الراوي بذكاء وتبصّر، فينطقه حيث يُفضّل له النطق، ويسكته ويجعله يتغاضى حيث يُفضّل السكوت. ولكن مع الأسف، هذا لا يحدث دائمًا، فسرعان ما ينساق الكاتب وراء راويه المفترض، فيرخي له الحبل على الغارب، فتكون النتيجة نصًّا تقريريًّا، وكأنه تقرير مفتش شرطة، أو درس قراءة في منهاج مدرسي.
- تداخل الرواة ببعضهم أثناء السرد، فلا يُعرف تمامًا على لسان من تروى القصة، فمثلًا تارة نجد أن الراوي قد عرف بأن حَلْق الشخصية قد جفَّ من الخوف، وتارة نجده لا يعرف ماذا دسّت الشخصية في جيبها؛ لذلك يجب أن يكون التصوّر واضحًا عن كل راوي قبل الشروع بالكتابة.
والآن، تدعوكم مكتبة نوري لتسجيل آرائكم من خلال التعليقات حول موضوع المقال.
المراجع:
- مكتبة نوري الرقمية
- دكتور محمد عزّام- الراوي والمنظور في السرد- مجلة ديوان العرب 2016
- أ.د. آمنة اليوسف- السرد الروائي- مقالات دار الفكر
- قاسم شهاب- القصة القصيرة جدًا- 2013
شكرا يمام على هذا الشرح الجميل. فعلا مفهوم الرواة ووجهة النظر من اكثر المفاهيم اشكالية على الكتاب الجدد وحتى المخضرمين. حتى اني كنت اقرأ عملا كان على القائمة القصيرة للبوكر العربية لكنه مع ذلك تذبذب في وجهة النظر بين الغائب والمتكلم بشكل مشتت فعلا. البطلة تتكلم بصيغة المتكلم في بعض الفصول وبصيغة الغائب عن نفسها في فصول اخرى لدرجة اعتقدتها شخصا اخر واحتجت ان اقرأ أكثر من مرة كي أفهم. اشكالية الرواة ووجهة النظر لا يتملكها الكاتب إلا من خلال التدريب والخطأ والتدريب والخطأ مرات ومرات عديدة لكن مع التوجيه المناسب بعد فترة يمتلك تلك المهارة بشكل دائم.
أحيّيك أستاذة يمام على هذا المقال الرائع، لقد فصّلتِ بكلّ وضوح نقطة التباسٍ مهمة جدًّا..يحتاج لمعرفتها كلّ من يكتب في أدب الأطفال. بورك قلمكِ ودام إبداعك.
جزيل شكري لمكتبة نوري على إضافة هذه المقالات الثرية.
أقصر الطرق لتكتب للأطفال أن تكون إنت الطفل القارئ
مقال ثري ومهم يوضح النقاط بكل سلاسة، وبالفعل اختيار الراوي يغير من الحالة الشعورية للقصة بشكل كبير. شكرا على عرض هذا التفصيل والتحليل لدور الراوي. إن شاء الله نعمل على أساسه.
شكرا جزيلا أستاذة يمام على هذا المقال المفيد والثري كنا بحاجة إليه، موضوع مهم شكرا من القلب.
مقال قيّم وثري جدًا. شكرًا لكِ على التفاصيل.
مقال جميل، أعجبني إرفاق الأمثلة لكل نوع من الرواة. وان كنت اود اكثر من مثال لنفس النوع. ايضا كنت اتمني لو يتم ارفاق نصوص او أمثلة للتخبط في صيغةةالراوي، او عدم التوفيق في اختياره، بدون ذكر اسم النص طبعا