خلال جائحة فيروس كورونا، انتقل الطلاب في جميع أنحاء العالم من الفصول الدراسية إلى التعلُّم عن بعد عبر الإنترنت، وتم استبدال العديد من الكتب المدرسية وأوراق العمل ذات النسخ المطبوعة بمواقع الويب والموارد الرَّقْمية الأخرى. لقد كانت الكتب الرَّقْمية معنا منذ عقد من الزمان، ولكن إلى أي مدى نستوعبها جيدًا؟
لم تكن القصص بمنأى عمّا يجري في العالم، فقد أغلقت الكثير من المكتبات، أو تم تحديد الزُّوار وتقليص عددهم بشكل كبير؛ نتيجة الحرص على التباعد وتقليل الاختلاط للحفاظ على سلامة الجميع، وتم إغلاق باب الاستعارة وتصفُّح الكتب، وبالتالي، زاد التوجُّه نحو القراءة عبر الأجهزة اللوحية للجميع من كل الأعمار.
ورغم أن التعامل مع الأجهزة اللوحية بات أمرًا واقعًا لا مفر منه، بقي استخدامها في القصص والترفيه يثير جدلًا ما بين مؤيد ومعارض، فما الفارق إذن؟ في دراسة أجريت عام 2009، وجدت شركة الأبحاث التسويقية Millward Brown، أن الدماغ يعالج المواد المادية والرَّقْمية بشكل مختلف.
فقد تم إجراء دراسة على مجموعة من المشاركين، حيث شاهد المشاركون إعلانات على شاشة وعلى بطاقة مطبوعة، أثناء خضوعهم لفحص الرنين المغناطيسي الوظيفي. كانت المواد المطبوعة أكثر عرضة لتنشيط قشرة الفص الجبهي الإنسي والقشرة الحزامية، وكلاهما يشارك في معالجة المشاعر.
ولَّدت قراءة الكتب المطبوعة أيضًا نشاطًا أكبر في القشرة الجدارية التي تعالج الإشارات المرئية والمكانية، فعندما نقرأ نشئ أدمغتنا خريطة معرفية للنص، مثل تذكُّر أن بعض المعلومات ظهرت بالقرب من أعلى الصفحة اليسرى من الكتاب. لكن، هل يمكن رسم خريطة لشيء متحرك باستمرار مثل صفحة ويب؟ بالتأكيد، من الصعب تذكُّر موقع الكلمات غير الموجودة في موقع ثابت؛ لأننا نفقد ربط “العناصر المرئية” بالمكان الخاص بها.
الفريق المؤيد للقراءة الرقمية قال:
– أثبتت الدراسات أن القراءة الرَّقْمية تولِّد ثقة عالية لدى القارئ وتجعله أسرع، حيث تُعد الطباعة بصريًّا أقل أرهاقًا من النص الرَّقْمي، حيث لا يتطلب النص الرَّقْمي استخدام الحواسّ، بما فيها اللمس، والتخطيط للمساعدة في معالجة الكلمات على الصفحة، وقد يحفِّز على إعمال القدرات العقلية أيضًا.
– أوضحت دراسة أخرى أننا نقرأ النص الرَّقْمي بسرعة أكبر، لذلك نعتقد أن علينا فهمه بشكل أفضل. أثناء القراءة الرَّقْمية يكون كل شيء في متناول أيدينا وبين أصابعنا، حيث يمكن الوصول إلى العناوين الرئيسية في ثانية، ولكنها قد تكون أيضًا أحد المزالق. كل شيء سريع جدًّا ويمكن الوصول إليه، لدرجة أننا قد لا نستوعب ما نقرؤه، فهو يمثل اتجاهًا ذي حدَّين.
– يقول أحد الباحثين: “لن أقول أبدًا إنه يجب على الجميع قراءة المطبوعات طوال الوقت، حيث يشعر الناس دائمًا بالصدمة لسماع أن لديّ جهاز كيندل، وأنا أحبه، لكنني أستخدمه فقط عندما أقرأ من أجل المتعة”.
– أوضحت نعومي بارون، أستاذة اللغويات في الجامعة الأمريكية بواشنطن، عام 2016، كيف يقرأ الطلاب النصوص مطبوعة وعلى الشاشة، وذكرت أن المشاركين أشادوا بالقراءة الرَّقْمية لعدة أسباب، بما في ذلك القدرة على القراءة في الظلام، وسهولة العثور على ما يبحثون عنه بسرعة، ناهيك عن توفير الورق، وحتى حقيقة أنه يمكنهم القيام بمهام متعددة أثناء القراءة.
– للاحتفاظ بالمعلومات النَّصية التي تظهر على الشاشة، يقترح الباحثون الإبطاء وكتابة الملاحظات السريعة الرئيسية (تعمل الكتابة اليدوية كأداة إضافية لذاكرة فائقة).بنهاية المطاف، عندما تحتاج إلى استراحة من العالم الرَّقْمي، لا تقلل من شأن قوة الورق والحبر. ضع في اعتبارك إيقاف تشغيل أجهزتك الإلكترونية، واحمل كتابًا، واقلب الصفحات.
يرى الفريق المعارض للقراءة الرقمية
– يقول أحد الباحثين إن القراءة الرَّقْمية تُضعف الفهم، خاصة بالنسبة للنصوص الأطول والأكثر تعقيدًا. قد يكون هذا بسبب الفرضية السطحية التي تقول إن التعرُّض المستمر للوسائط الرَّقْمية سريعة الخطى، يدرِّب الدماغ على معالجة المعلومات بسرعة أكبر وأقل دقة، بطريقة سطحية.
– إذا ربط الأشخاص وقت الشاشة بتصفح الويب، فقد يندفعون بسرعة دون استيعاب النص بالكامل.
– التمرير عبر النص الرَّقْمي قد يُضعف الفهم من خلال خلق تحديات مكانية، حيث وجدت دراسة أُجريت عام 2017، أن فهم المشاركين للقراءة قد تأثر عندما مرُّوا عبر اللوحات الفردية للكتاب الكوميكس، بدلًا من رؤية جميع اللوحات مرة واحدة.
– تبيَّن أن النص المطبوع أسهل في الفهم من النص الرَّقْمي، بالإضافة إلى ذلك، فإن الوهج الخفقاني المستمر لشاشات LED يخلق المزيد من الضغط على أعيننا، ممَّا يتسبب في الإجهاد البصري والعقلي.
– قراءة النصوص المطبوعة تتضمن نوعًا من التأمل (تركيز انتباهنا على شيء ثابت).
القراءة الرَّقْمية شيء مختلف تمامًا عن الانغماس في القراءة، بسبب الاستجابة للمنبهات الرَّقْمية. أعتقد أنه من الصحي لنا كبشر أن نجلس مع شيء لا يتحرك أو يشتت انتباهنا، فمعظم الناس يشعرون بذلك. إذن، البعض يعتقد أن القراءة الرَّقْمية تساوي القراءة الفقيرة المتسرعة.
– بالرغم أن أجهزة القراءة الإلكترونية، مثل كيندل، لا تتطلب التمرير، ولها القدرة على تقليل إجهاد العين باستخدام تقنية الحبر الإلكتروني، بالاضافة إلى كونها أفضل من تنسيقات النصوص الرَّقْمية الأخرى، لكن جميعها تفتقر إلى جانب مهم من تجربة القراءة، ألا وهو طي الصفحة.
في إحدى الدراسات، قرأ المشاركون قصة إما على كيندل أو مطبوعة، ثم خضعوا لاختبارات الفهم. كانت النصوص متطابقة، لكن قرّاء كيندل ضغطوا على زر للتقدم خلال الاطلاع على الكتاب، بينما قلب القرّاء الذين يحملون كتبًا مطبوعة الصفحات. كان قرّاء الكتب المطبوعة أكثر ميلًا إلى تذكُّر الترتيب الزمني للقصة بدقة، وقد يكون السبب وراء هذا أن الطباعة توفر إشارات حسيَّة تعزز المعالجة المعرفية. عند حمل كتاب، نتلقى تذكيرات بعدد الصفحات التي قرأناها وعدد الصفحات المتبقية، ويمكننا قلب الصفحات لإعادة قراءة النص إذا لزم الأمر.
أشارت بعض الأبحاث إلى أننا نعالج المعلومات بشكل أكثر فاعلية عندما نقوم بتجنيد حواسّ متعددة، ومناطق دماغية متعددة، أثناء قراءة النص، وقلب الصفحات، ورؤية الكلمات، والشعور بثقلها، وحتى شم الورق وتحسُّس ملمسه.
التمرير يتطلب المزيد من ذاكرتنا العاملة. وفي ذاكرتنا العاملة، يمكننا الاحتفاظ بحوالي سبعة عناصر في وقت واحد، وبالتالي فإن الهدف عند القراءة هو التخلص من أكبر عدد ممكن من العناصر، عندما يتعين علينا أن نتذكر ما قرأناه للتو، وليس لدينا إشارات مكانية للمساعدة.
بالنهاية نقول إن القراءة الورقية والقراءة الرَّقْمية تكمل كلتاهما الأخرى، فلا يوجد صواب مطلق أو خطأ مطلق، ولأن التكنولوجيا صُنعت من أجل مساعدة الإنسان ورفاهيته، فيمكنه الاستفادة من كل نقاط القوة التي توفرها التكنولوجيا، والتخلص من العيوب والمشكلات التي تسببها.
يجب ألا نتخلى عن القراءة الرقمية، بل علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الموقف عند اختيار وسيلة القراءة الخاصة بنا. في تقرير Scholastics لعام 2012، أقر الأطفال أن الكتب الإلكترونية أفضل من الكتب المطبوعة، في حالات منها مثلًا الأوقات التي لا يريدون خلالها لأصدقائهم معرفة ما يقرؤونه، وعندما يكونون في الخارج ويتجوَّلون، أو عندما يسافرون. وتعد الكتب المطبوعة أفضل في أوقات مشاركة القراءة مع الأصدقاء، والقراءة في وقت النوم.
تتفق كل من وجهتي النظر على أن النظام الرقمي مناسب للاطلاع وتصفح عناوين الأخبار بحثًا عن الأفكار الرئيسية، ولكن من الأفضل قراءة النصوص الأطول والمعقدة بصورة مطبوعة، خاصة تلك التى نريد فيها الاحتفاظ بالتفاصيل.
اترك تعليقاً