القصة الناجحة هي التي تتيح للقارئ الاقتراب من الأبطال والأحداث والمشاهد كأنه يراهم، بل ويغامر معهم، وكأن القارئ في اللحظة الحالية داخل القصة مثلهم تمامًا، يجلس في الغرفة مع الشخصيات، يتناول الفُشار، أو يحبس أنفاسه ويقفز في الهواء، أو يغطس في الماء، أو يدق قلبه بنفس سرعة دقات قلوبهم، بعدما هربوا على كوكب زحل من الفضائي الشرير، ويلتقط أنفاسه مرتاحًا وهو يصل معهم للحل مع آخر كلمة قبل أن يغلق الكتاب.
الكتابة بالحواس
كم مرّة شممت رائحة معينة فأيقظت داخل عقلك ذكرى غالية شعرت وكأنك تعيشها مرة ثانية؟ كم مرّة أيقظ ملمس رمال الشاطئ ورائحة البحر ومذاقه المالح في إحدى المدن الساحلية ذكرى بعيدة من طفولتك؟
الكتابة بالحواس هي ببساطة استحضار الكاتب لمشاعره، وإيقاظ ما يُعرف بـ”الذاكرة المشاعرية”، ثم يتوحد الكاتب مع بطل قصته في المواقف المختلفة التي يكتبها، وينقلها بوصف يجعل القارئ يشمُّها ويسمعها ويلمسها ويتذوقها ويبصرها، وهذه بعض الطرق للتوضيح:
اكتب بالبصر:
عندما كنت أكتب المسودة الأولى لكتابي، التقيت بانتظام مع مجموعة من الكُتَّاب خلال ورشة كتابة، وكانت إحدى أهم النصائح التي تلقيتها أكثر من غيرها هو استخدام قاعدة “اعرض، لا تخبر”، أو بالإنجليزية “Show, don’t tell”.
لا تخبر القارئ ببساطة بما تشعر به أو بما يحدث؛ فكتابة الأوصاف المرئية تتضمن ما هو أكثر من “الأشجار الخضراء” و”السماء الزرقاء” و”الزهور حمراء”.
إليك هذا التمرين: اسأل نفسك: “ما الذي أراه في هذا المشهد”؟ وتابع بسؤال: “لماذا يهم ذكره هنا كمحرك للأحداث”؟
عندما تركز على البصر في الكتابة، فإنك تمنح القرَّاء التفاصيل المهمة التي يحتاجون إليها لتصوُّر الشخصية والمشهد، وكلما كانت التفاصيل مميزة ودافعة للأحداث، نجحت في جذب انتباه القارئ وتعاطفه مع شخصيتك.
اكتب بالتذوق
يمكن أن يكون وصف المذاق وسيلة ممتعة لإبقاء القارئ مرتبطًا بالتفاصيل. هل تحب أن تجعل لعاب قارئك يسيل لمعرفة ما سيحدث؟ في كثير من الأحيان ننسى وصف الطريقة التي قد يُتذوَّق بها شيء ما، أو ما يعنيه هذا الطعم لبطل قصتك.
تخيل أن نكتب: “تناولت حساء طماطم مالحًا”، أو: “تناولت حساء طماطم مطهوًا بماء البحر”.
طريقتي المفضلة لوصف مذاق شيء ما هي استخدام الاستعارة والتشبيه، وربما تكون طريقة ساخرة أحيانًا، ولكن من لا يحب أن يضحك الطفل خلال قراءة قصته، حتى لو كانت قصة مرعبة؟
اكتب بالشّم
الروائح أداة قوية لمساعدتك على سرد القصة بأفضل طريقة. هل تتذكر أخر مرّة شممت فيها نفحة من شيء يعيدك إلى الماضي، ككرات النفتالين التي تذكرك بعليّة بيت جدتك مثلًا، أو رائحة الحليب الحامض في سلات المهملات في المدرسة الابتدائية، أو الرائحة الترابية للتربة بعد نزول المطر، أو رائحة ممحاة الفراولة الجديدة في أول يوم مدرسي؟
عندما تبدأ في وصف مشهد ما، أغمض عينيك وتخيَّل كل الروائح المحتملة التي توجد في هذا المشهد. الروائح لا تصف الطعام ورائحة الجسم فقط، بل يمكن استخدامها لوصف الطقس أو الغرفة أو الموقف.
اكتب بالسمع
الطريقة الأكثر شيوعًا لوصف الأصوات في الكتابة تكون من خلال استخدام المحاكاة الصوتية التي تحدث عندما تصدر الكلمة الصوت الذي تشير إليه، مثل فرقعة أو طرقعة أو نفخ (طاخ، خويش، كريش، سوييش، هوووش، بووف، هوووف).
إلى جانب المحاكاة الصوتية، هناك أصوات في كل مكان حولك، فبينما أكتب هذا المقال، أسمع نقرة مفاتيح باب المنزل المقابل لي، والهمهمة المنخفضة لمكيف الهواء، وأزيز سيارة تمر بالشارع، والضحك الهادئ من شرفة أعلى نافذة غرفتي. أُسمِّي كل ذلك الموسيقى التصويرية للصباح في بيتي والحي الذي أقطن فيه.
وأنت هل استمعت إلى بيئتك اليوم؟ هل استمعت لبيئة شخصياتك في القصة؟ الأصوات في عالمهم وما يمكنها أن تخبر عن الأحداث وتدفعها للأمام دون كلام.
اكتب باللمس
عدد الصفات المتوفرة لحاسة اللمس لا حصر له، والطريقتان المفضلتان لديّ لوصف اللمس هما درجة الحرارة والملمس.
كيف تشعر بالأشياء على بشرتك؟ خشنة أم ناعمة؟ مجعدة أو ملساء؟ مهدئة أم تثير القشعريرة؟ فكِّر في مدى اختلاف إحساس الريشة الموجودة على ذراعك عن تلك الموجودة على قدمك.
اجعل القارئ يلمس حراشف الكائن الفضائي المدببة كرؤوس الدبابيس، أو يلمس الغيوم التي تشبه حلوى السكر الزهرية!
لماذا الكتابة بالحواس مهمة؟
- لأنها تربط القارئ ببطل القصة، وتجعله شغوفًا لمعرفة الأحداث والتهام صفحات القصة حماسًا حتى النهاية. الكتابة بالحواس تجعل القارئ يختبر مشاعر السعادة والخوف والانتصار والفخر والقلق، وغيرها ممَّا يختبرها بطل قصتك تمامًا.
- الكتابة بالحواس تعطي القصة الأصالة والتفرُّد المطلوب لتبقى في ذهن القارئ للأبد، وهي ما تعطي الكاتب “أسلوبًا” خاصًّا لا يشبه أحدًا. ببساطة، لأن الكاتب يكتب بحواسه التي اختبرها فعلًا هو لا أحد سواه.
- من ناحية أخرى، تمنح الكتابة بالحواس القارئ إحساسًا بالشخصية والمكان، وبأن القصة مقنعة، وهذا يجعل القارئ يرغب في الاستمرار في قلب الصفحة.
الكتابة بالحواس أيضًا طريقة رائعة لتعزيز تطوير الشخصية، فبدلًا من إخبارنا ببساطة كيف تتصرف الشخصية، يمكننا أن نرى ونستنتج من تصرفاتها.
على سبيل المثال:
- صاح ريان بغضب: “هذا كل شيء”!
- دفع ريان كرسيَّه ووقف، واحتكَّت قدماه بالأرضية المشمعة الصفراء مع صرخة جعلتني أجفل.
- جرى ريان لغرفته.. أغلق الباب بقوة أسقطت شظية من الخشب على الأرض من أثر الاصطدام.
لا نحتاج في المثال الثاني إلى إخبارنا أن ريان غاضب، فقد عرفنا ذلك من سياق المشهد ومن أفعاله.
كل هذا مهم لأننا ككتَّاب نريد من القراء أن يهتموا بشخصياتنا، نريدهم أن يستثمروا في قصصنا، ويبدأ ذلك الاهتمام بجذب القارئ والسماح له بالتعرُّف على شخصياتنا عن قرب قدر الإمكان.
أمثلة على كيفية الكتابة بالحواس:
من السهل أن تقول: “اعرض، لا تخبر”، ولكن كيف يمكنك ككاتب أن تفعل ذلك بالفعل؟
1- استخدم الأفكار الداخلية
إحدى أفضل الطرق للإظهار بدلاً من الإخبار هي إدخالنا في رأس الشخصيات. اسمح للقارئ أن يرى ما يفكرون فيه وكيف يشعرون تجاه الموقف على المستوى العاطفي، بدلًا من مجرد ترك الأمر عند “لقد كانت حزينة”.
يخبر: بكت ليلى وهي تشاهد والدتها تغادر.
يعرض: تمرغت ليلى على الأرض. كيف؟ كيف يمكنها أن تتركني؟ سالت الدموع على وجهها الأحمر كالطماطم، لا بل كفوهة بركان، وكانت عيناها مركَّزتين على الباب حتى انغلق فانفجرت ليلى.
2- استخدم أفعالًا قوية
تذكر أن أبسط الأفعال هي أيضًا الأكثر مللًا، لذا استخدم كلمات أقوى. هل ساروا أم اقتحموا أم قفزوا؟ هل بكوا أم انفجروا أم صرخوا أم تشنجوا أم انتحبوا حتى سال مخاط أنوفهم؟
3- خلق شعور بالإعداد
في الكتاب المصوَّر يروي الرسم القصة أكثر ما يروي النص. لكن في الرواية الأطول، على المؤلف أن يرسم الصورة بدقة وعناية.
يخبر: كان لون الجدران أبيض.
يعرض: كانت الجدران مقشرة بالطلاء الأبيض، وكانت الشقوق تتدلَّى منها، ممَّا جعل من الواضح أنه لم يفكر أحد في فتح هذه الغرفة منذ زمن طويل. على السقف، يبدو أن بقعة الماء تكبر مع كل دقيقة تمرّ.
مثال أخر:
يخبر: كان هناك شيء يحترق. حاولت فتح النافذة، لكنها كانت عالقة.
يعرض: تصاعد الدخان من الفرن، ملأت أنفي رائحة رغيف اللحم المحروق النفاذة. حاولت فتح النافذة، لكن سنوات من تراكم الطلاء جعلت من المستحيل أن أزحزحها ملليمترًا واحدًا.
في كلتا الحالتين نحصل على إحساس أقوى بالمشهد. تخبرنا الشقوق الموجودة في الجدران والطلاء الموجود على النافذة أن هذا مكان متهالك، وليس منزلًا دافئًا ومريحًا لشخص ما. أليس كذلك؟
4- التفاصيل الحسيَّة
الهدف من العرض هو جذب القارئ لجعله يشعر وكأنه جزء من المشهد، وليس مراقبًا خارجيًا. وكوننا جزءًا من المشهد يعني توظيف حواسنا الخمس، لذا امنح القارئ شيئًا يمكنه استيعابه.
يخبر: كانت رائحة الغرفة جميلة.
يعرض: تفوح من الغرفة رائحة التوابل؛ هيل، زعفران، بابريكا، وشيء لم أتمكن من وضع إصبعي عليه، لكنه يدغدغ أنفي ويخترق قفصي الصدري بمجرد لمسه.
هل ترى؟ من خلال التعمق في التفاصيل، تتم دعوة القارئ لاستخدام حواسه لتصور الغرفة، ممَّا يؤدي إلى تفاعل أكثر انغماسًا وعاطفية مع المشهد.
وأخيرًا، أذكِّر نفسي معكم أنّه ليست كل كلمة في الكتاب تحتاج إلى الاستفادة من “الكتابة بالحواس” أو قاعدة “اعرض، لا تخبر”، فهناك أوقات تريد فيها، كمؤلف، إنجاز شيء ما بسرعة في قصتك، أو لحظات تقدم الحبكة، لكنها ليست محورية في القصة. لذلك، إذا لم تكن اللحظات مشحونة عاطفيًّا، فأخبر قارئك بما يحدث بكل الوسائل.
وكمثال أخير: أمسكت أمي بمفاتيحها وخرجت من الباب. إذا لم تصل إلى العمل في الوقت المحدد فسوف تتأخر.
هنا، لا نحتاج إلى رؤية كيف تبدو مفاتيح الأم، أو كيف تبدو الغرفة التي تتواجد فيها، بل إن النقطة المهمة هي أنها في عجلة من أمرها، وهذا يكفي.
في كل الأحوال، لا تنسَ أن تجذب انتباه قارئك، من خلال غمره في العالم الذي أنشأته بأكبر قدر ممكن، ولاحظ بعدها كيف ستكون قصصك لا تنسى، بل ستكون دهشة تمشي على قدمين!
والآن، هل يمكنك أن تخبرنا عن قصة قرأتها واستطاعت أن توقظ حواسك الخمس بين صفحاتها؟
مقال جميل ومفيد جدا
جزاكم الله خيرا كثيرا
أحببت استعراض الأمثلة أثناء شرح الفكرة. وليس فقط الفكرة.
واحببت أيضا تبويب الكتابة من حاسة اللمس ببندي اللمس والحرارة.
المقال مفيد لكل كاتب.
ألف شكر