أغمض عينيك لحظة وتذكَّر قصة أو رواية مفضلة لك من الطفولة. أخبرني الآن، هل تتذكر أين دارت أحداثها؟ على الأغلب نحن لا نتذكر القصة التي حدثت في شارع أو بحر أو فضاء، أو القصة التي كان بطلها يرتدي ملابس عادية بلا وصف مميز.
لكن، تُحفر في قلوبنا القصة التي حدثت في شارع تتحول مبانيه إلى أفاعٍ عملاقة، أو بحر يسكنه بشر بحراشف بنفسجية، أو كوكب يقام به نهائي مباراة بولينج المجرات. وطبعًا لا ننسى أبدًا بطلًا لديه بدلة كحلية تجعله فاتنًا، صحيح؟
عالم القصة هو ما يمكن أن يجعل قصتك لا تُنسى، أو تُنسى في لمح البصر.
ما هو عالم القصة؟
هو كل التفاصيل التي تجعلنا نشم ونسمع ونرى القصة أو الرواية تمامًا كأننا بداخلها. العالم هو ما يجعل الأبطال حقيقيين يعيشون معنا ويتجولون حولنا. نشعر بما يشعرون به، ونراهم في انفعالاتهم وتصرفاتهم، ولا ننسى ملامحهم، وطريقة حديثهم، ولون ملابسهم بعدما نغلق الكتاب.
العالم ببساطة هو مسرح الأحداث الذي تدور فيه حكايتك، وكلما كان متقنًا، كانت القصة حقيقية من لحم ودم، سواء كان عالمًا واقعيًّا أو فانتازيا.
كيف تبني عالم قصتك؟
لا يهم نوع العالم الذي تعتمده في قصتك، سواء كان عالمًا واقعيًّا وحقيقيًّا ومعروفًا، أو حتى عالمًا متخيَّلًا بالكامل ليس له وجود.
وهناك عدة أسس وقوانين ينبغي أن تتوفر في عالم القصة، وهي:
1- حدد نوع العالم وضع قواعده
إنشاء قواعد وحدود لعالمك وطبيعة كل شيء بداخله. اصنع مكانًا يعيش به أبطالك، له قوانين ولغة وثقافة وطبيعة سكان. حدِّد له مكانًا على الخريطة، هل هو في الأرض أم الفضاء؟ أم في بُعد ثالث لم يُكتشف بعد؟ هل العالم في قرية فقيرة أم مدينة تكنولوجية في المستقبل البعيد؟ ما هي لغته؟ من يسكنه؟ ما المسموح والممنوع به؟ وماذا عن طرق الانتقال والمأكل والملبس والمنازل؟
ما هو نظام عالمك الحاكم؟ هل يستخدمون السحر في هذا العالم؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن يمكنه استخدامه؟ وما مدى قوته؟ والأهم، ما المخاطر التي تهدد هذا العالم، وبالتالي تهدد أبطالك؟
2- صف بيئة عالمك بالتفصيل
ما حالة الطقس؟ كيف تؤثر على العالم أو الكوكب؟ هل توجد كوارث طبيعية؟ هل توجد درجات حرارة قصوى؟ ما الموارد الطبيعية الموجودة في هذا العالم؟ كيف يستخدم سكان هذا العالم مواردهم؟ هل تدور أحداث قصتك في الصيف أم الشتاء، أم على مدار العام؟
3- أوضِح ثقافة عالمك
هل سكان عالمك متطورون أم يعيشون في غياهب الجهل؟ هل يستطيعون استخدام التكنولوجيا الحديثة أم لا؟ كيف يتواصل السكان؟ ما المحظورات والمعتقدات والعادات والتقاليد السائدة في عالم قصتك؟ معرفة ما يمكن وما لا يمكن قوله في عالمك يمكن أن يكون مصدرًا مناسبًا للصراع.
4- امنح عالمك اسمًا
سواء كان عالم قصتك واقعيًّا أو متخيًّلا، يجب أن تهتم بكل تفاصيله وكأنه عالم حقيقي، ومن أهم هذه التفاصيل أن تمنح عالمك اسمًا معتنًى به جيدًا، اسمًا مميزًا ومبدعًا. يمكن أن تستوحي الاسم من أماكن موجودة بالفعل أو تبتكره كاملًا. إذا كان عالمًا يشبه العالم الحقيقي، ويدور في مدينة أو محافظة أو قرية أو كفر، فليكن له اسم جديد وغريب وملائم لأبطالك. ولا تنس أن تمنح أبطالك أنفسهم أسماء وصفات مميزة غير عادية.
هل تتذكّر مثلًا رواية “مغامرة الشاحبين”، من روايات ما وراء الطبيعة للدكتور أحمد خالد توفيق، وأحداثها في قرية هالماجيو الواقعة في إقليم بوكوفينا المتخيَّل؟ هل تتذكر مصعد رولد دال الزجاجي، أو مصنع ويلي ونكا للشوكولاتة، ومغامرة تشارلي وجده العجوز هناك؟ أم تتذكر مدرسة هوجورتس للسَّحرة في روايات هاري بوتر، وتفاصيل عالمها الذي صنعته كاملًا متخيَّلًا الكاتبة البريطانية ج.ك. رولينج؟
5- أثرِ عالمك بالتفاصيل الحسيَّة
إذا كانت القصة تدور في الصحراء العربية، لنرى النمس والثعلب البري والظِّباء يتحركون في عالم القصة. ولتلفحِ الحرارة وجوهنا، ونتصبَّب عرقًا مع الأبطال إذا خرجوا في مغامرة تحت أشعة الشمس، ونجلس معهم في حفلة شواء مسائية نتناول زرب الدجاج المشوي.
إذا كان عالم القصة يدور في الريف، لتغرس أقدام القارئ في الحقول الموحلة، ولنلهو معهم في الترع، ونرتدي الجلاليب المنقوشة والمناديل الملونة، ولتشرك القارئ في عملية جمع محصول الطماطم.
إذا كان عالم القصة يدور في مدينة خيالية بعد مائة عام في المستقبل، اجعل القارئ يسافر عبر نظارة يرتديها في مكانه، ووسيلة مواصلاته الأحذية الطائرة، وطعامه كبسولات جيلاتينية مطاطة.
6- اجعل عالمك منطقيًّا
حتى لو كان عالم قصتك خياليًّا 100%، اجعله منطقيًّا في أحداثه وقوانينه، وهو ما يعرف بأن تسير الحبكة على نفس النغمة طوال القصة. حتى العوالم الخيالية لها قوانين تحكمها، ولنا في عالم هاري بوتر خير مثال.
على سبيل المثال، إذا كان عالم قصتك يغلب عليه الغموض والحزن، فلتجعل الآلات الموسيقية تعزف أغانٍ حزينة، ولتكن ملابس الشخصيات قاتمة، وطلاء منازلهم متقشر وباهت. ولنر زهور حديقة بطلك ذابلة، وطعامه ينقصه الملح، ونومه متقطع مشوب بالكوابيس.
أمثلة لبناء عالم قصة ناجح
يمزج بعض الكتاب بيئة وعناصر من العالم الحقيقي بعناصر خيالية، ويخلق العديد منهم أكوانًا خيالية تمامًا بقوانينهم الفيزيائية ومنطقهم، ومجموعات من الأجناس والمخلوقات الخيالية.
على سبيل المثال:
– الكاتب العظيم رولد دال وعوالمه المدهشة في رواياته التي ما زال يحبها الأطفال ويتفاعلون معها، رغم مرور سنوات وسنوات على كتابتها. شيء مهم جدًّا منحها هذه الشعبية والتفرد، وهو العالم الذي اهتم رولد دال بتفاصيله وتفاصيل شخصياته؛ فأصبحوا حقيقيين جدًّا ومدهشين جدًّا. من ينسى ماتيلدا وتشارلي مثلاً؟
– الكاتب جورج مارتن المشهور بكتابة سلسلة الخيال الملحمية Game of Thrones، والتي تشتهر بعالمها الواسع، ومجموعة الشخصيات المتزايدة باستمرار، واسم قارّته الخيالية ذات الممالك السبع.
– الكاتبة J.K. رولينج، التي صنعت عالم هاري بوتر، الذي يمزج بين أجواء العالم الحقيقي والعناصر السحرية في هذه الملحمة. اخترعت ج.ك. رولينج تفاصيل مدهشة بدءًا من مكان العالم وطبيعته، وحتى الحيوانات، والتعاويذ، وملابس الشخصيات، وتصميمات بيوتهم، وغرف مدرسة السحر، والغابة، وحتى أنواع العصا الخشبية الطائرة.
– تدور أحداث حرب النجوم لجورج لوكاس في عالم خارج عالمنا، حيث يتفاعل الفضائيون مع البشر، وتمتزج التكنولوجيا المتقدمة مع التقاليد القديمة.
– الكاتب أحمد خالد توفيق في رواياته الرائعة (روايات مصرية للجيب)، وعالم د.رفعت إسماعيل الذي يواجه الوحوش الغامضة، والنَّداهة، ولعنة الفراعنة، وأسطورة ميدوسا، ويجوب القارات والعوالم الخفية ببدلته الكحلية، وشراهته في تدخين السجائر.
هل تعرفون لماذا هذه العوالم ناجحة ومؤثرة ومحفورة بذاكرتنا حتى اليوم؟
– لأن العناية بتفاصيل العالم في الأمثلة السابق ذكرها أضافت مصداقية على القصة أو الرواية.
– لأنها وضعت القارئ في قلب الحدث، وجعلته يرى ويتفاعل بحواسه مع الأحداث كأنها حقيقة.
– لأنه كلما كان عالم القصة أصيلًا وحقيقيًّا، وصل لقلب القارئ مباشرة، وجعله ينتمي ويتفاعل مع الأحداث.
– لأن عالم القصة المتقن يدمجنا في الأحداث، ويجعلنا ننسجم حتى لو كانت أحداثه خيالية وفانتازيا.
– لأن عالم القصة هو ما يجعل من الفكرة التقليدية فكرة مبتكرة ومبدعة. يمكنك أن تكتب رواية عن طفل يتيم فقير ينضم لمدرسة ويواجه مصاعب. ويمكنك أن تكتب نفس الرواية لنفس الطفل، ولكنه يلتحق بمدرسة سَحَرة تقع في بُعد غير مرئي، ينتقل لها بقطار من رصيف 9 وثلاثة أرباع (روايات هاري بوتر).
من أين يحصل الكاتب على عالم قصته؟
لا توجد إجابة محددة لهذا السؤال، فعالم قصتك هو إبداعك الخالص والخاص. يمكنك أن تستوحيه من عالم حقيقي حولك، أو تبنيه حجرًا حجرًا من خصب خيالك.
تمرين بسيط على بناء عالم القصة
والآن، اسمحوا لي أن أشارككم تمرينًا سريعًا على بناء عالم القصة. لننظر معًا إلى هذه الصورة وعالمها.
الصورة للرسامة والكاتبة Rebecca Green
اكتب مشهدًا لا يزيد عن 70 كلمة، تدور أحداثه داخلها. ضَمِّن به أكبر قدر من الحواس الخمس (الشم واللمس والنظر والتذوق والسمع).
لاحظ أننا لا نكتب مثلًا: تنتظر الفتاة الفقيرة خارج مخبز الحلوى. الفتاة جائعة وحزينة ولا يراها أحد. (رغم كونه وصفًا للعالم).
ولكن، من الأفضل أن نكتب: شمَّت الفتاة رائحة كعك القرفة الطازج. قرقر بطنها من الجوع، وابتلعت ريقها المرّ. قرصها البرد فشدَّت الوشاح المرقَّع، وسدَّت أنفها رائحة عفونته. تمنت لو لاحظتها الخبازة السمينة لثانية واحدة، لكنَّ لوحًا زجاجيًّا يفصل بين عالمها المهمل تمامًا كسلة المهملات بجوارها، وبين عالم دافئ يتوسطه فرن مشتعل وخبز محمص، وكعكات تملأ بطون من يملك ثمنها.
والآن، ماذا تنتظر أيها الكاتب المبدع؟ لتصنع في قصتك عالمًا لا يُنسى، يطبع بصمته الخاصة بقلب وعقل القارئ.
يستند هذا المقال إلى المصادر الآتية:
ورش عمل تدريبية خاصة حصلت عليها الكاتبة في مجال الكتابة القصصية والإبداعية.
تمارين الكتابة الإبداعية من كتاب “الحكاية وما فيها” للكاتبة محمد عبد النبي.
عدة دورات تدريبية من خبراء كُتاب الأطفال بموقع the creative writing school
رائع جدا .. هذا الدرس إضافة لكل كاتب يحرص أن يكون في قمة المبدعين.