حينما نتأمل حال مجتمعنا، نجد نسبة لا يُستهان بها من معارفنا وزملائنا قد سلكوا في عملهم طريقًا يخالف مجال دراستهم، وسنلاحظ ظهور مصطلح “تغيير مجال العمل- career shift”، وقد بدأ يغزو مجتمعنا بشكل لا يمكن إغفاله. هذا لأننا نؤجل اكتشاف أنفسنا إلى مراحل متأخرة، ونكتفي في مراحل الطفولة الأولى بسؤال الطفل عمّا يريد أن يصبح عليه عندما يكبَر، فنسعد عندما يختار مهنة إحدى والديه، وربما نتندّر بإجابات الصغير ونناقشها قليلًا، لكننا لا نتوقف عند الأمر بشكل جاد في كثير من الأحوال.
من غير الممكن لنا أن نختصر طريق ووقت الاختيار الفعلي في الأعوام البسيطة التي تسبق تخرُّجنا من مراحل التعليم الأساسية، ومن غير الممكن أن نترك لمكتب التنسيق أمر حسم قرار يحدد مستقبلنا بتقديراته، بينما نحن في حاجة لأن نبدأ في بحث الأمر منذ الصغر.
بين ما نريد وما نستطيع
لا زلت أذكر معلم مادة الأحياء حينما أخبرني عن بعض المجالات التي يعتقد أنها تناسبني في مجال العمل، واستدرك حديثه وقتها بأن أشار إلى أن ذلك ربما لا يتوافق مع ما أريده أنا لنفسي بطبيعة الحال، وبأنه يشير إلى ما يعتقد أنني أجيده، لا ما أريده أنا لنفسي.
المفارقة أنني أصبحت كما توقع معلمي بالفعل، ولكنني كثيرًا ما أنسى هذا أو أتناساه عمدًا. كنت أفضل أن أسلك طريقًا يناسب ما أحب.. طريقًا يتوافق مع شغفي وهوايتي؛ فالمهارات محض أدوات لا تحدد هويتنا، ويجب ألا نقرر على أساسها مستقبلنا.
ما هو الفارق بين المهارة والموهبة والشغف والهواية؟
المهارة والموهبة
المهارة هي القدرة المطلوبة لأداء عمل معين بشكل بارع؛ فالمهارات أقرب إلى الأدوات التي يمكن لنا أن نطوِّرها ونضيف إليها، في حين أن الموهبة هي استعداد فطري للبراعة في عمل معين.
الشغف والهواية
يختلف الشغف عن المهارة والموهبة والهواية؛ فالشغف هو الطاقة التي تحركك لممارسة نشاط معين، وعلى خلاف الهواية، نجد أن الشغف يحرك المرء دون حساب لوقت أو قياس لمجهود، فهو الرغبة المتَّقدة التي تضمن الاستمرارية والتقدم، وتشجع على اكتساب مهارات جديدة، أو تطوير موهبة وهواية لدينا بالفعل. الشغف هو المحرك الذي علينا أن نجده ونغذِّيَه ونوجهه.
بين هذا كله، علينا أن نجد أنفسنا ونحدد طريقنا، علينا أن نبحث عن نوع من التناغم بين ما نريد وما نستطيع في زمن مزدحم بالتفاصيل؛ فتطوير المهارات بشكل مفتوح، بدون وعي لطبيعة عقل الطفل، ربما يُثقله بمهارات تربكه ولا تُعينه.
أنواع المهارات
يوجد عدد غير قليل من التقسيمات المنتشرة لأنواع المهارات المختلفة، من بينها تصنيف اليونيسيف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة)، حيث قامت بتحديد اثني عشر مهارة حياتية رئيسية من خلال تصنيف تعلُّم رباعي مميز.
– يمكننا أن نطَّلع على الملف الكامل لهذا التصنيف من هنا: https://uni.cf/3fcHlBM
قوالب المجتمع في النظر إلى الصغار
البداية الفعلية للاهتمام بمهارات الصغار لن تكون إلا بالنظر لكل طفل على حِدَة، ومناقشة ما يميزه من صفات خاصة، وتعزيز نقاط القوة التي يملكها؛ فالطريقة التي ننظر بها إلى الصغير هي ما يجب أن نغيرها حقًّا في معظم الأحيان. كم سمعنا عن شكاوى عنوانها أن صغيري حسَّاس أو خجول، بطريقة عرض تقدم الأمر على أنه تلخيص لعقل الصغير في صفة أو صفتين، دون اعتبار باقي خصاله.
كيف لنا أن نلخص عقل إنسان في صفة أو اثنتين؟!
كيف لنا ألا نتوقف أمام باقي الصورة؟!
عثمان بن عفان (رضي الله عنه) كان عنوانه “الحياء”، وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان عنوانه “العدل” و”القوة”، وربما “سرعة الغضب” كذلك، لكن ضع هذا في سياق أفعالهما، في سياق عزمهما وسداد نواياهما، وأعد النظر لباقي الصورة، وتأمل عبقرية كل منهما.
هل من عاقل يتوقف لتناول أي من هذه الصفات كنقاط ضعف كما نفعل؟!
أم أنها سمات شخصية لجيل صنع كل شيء؟!
ولعل هذا من ثمرات دقة تسجيل سِيَر الصحابة، فيمكن لكل منا أن يحكي لصغيره عنهم برؤية واعية لعقل الصغير وطريقة تفكيره.
ومن هنا، نجد أن الذي يجمع هذا كله ويضعه في مساره الصحيح، هو صدق الوجهة والعزم، ووضوح الطريق، فنحن لا نربي لتحصيل بضع درجات في شهادة تقديرات مدرسية، أو لتحقيق رضا المجتمع عن أدائنا كآباء وأمهات. نحن ها هنا لسبب، وفي كل صغير من أطفالنا باب خير وبذرة أمل.
حاجات الحاضر والمستقبل:
بدأت الحاجة لمناهج متطورة تلبي التقدم التقني المتسارع، فظهر منهج ممتع هو منهج STEM. كلمة STEM هي اختصار لأول كل حرف من الكلمات الأربع: (Science- Technology- Engineering- Mathematics)، أي: (العلوم- التكنولوجيا- الهندسة- الرياضيات). يهدف نظام STEM إلى مبدأ التكامل بين العلوم المعاصرة؛ لتلبية حاجات لم تكن المناهج القديمة تضعها في الحسبان.
تطور الأمر فخرج منهج أخر هو STEAM، الحرف الإضافي هنا هو حرف A، والذي يرمز للفنون ART. وظهر كذلك منهج “STREAM”، حيث يرمز حرف الـ R لكلمة Reading، ويهدفون هنا إلى أن القراءة والاطلاع هامَّان وضروريّان لتدعيم أركان أيّ من المواضيع المطروحة للدراسة.
كيف نكتشف مواهب صغارنا؟
يحتاج الأمر لمراحل من التجربة والتفاهم والصداقة والحوار المفتوح بيننا وبين الصغار؛ فنحن حينما نضع أيدينا على مواطن القوة في الصغير، ويمكننا حينئذ أن نحدد ما يدعم توجهاته من مهارات قد تفيده في حياته.
مثال تطبيقي مع صغيرتي مريم:
بدأ الحوار مع “مريم” عن عدد كبير من الوظائف التي تعتقد أنها ستقوم بها جميعًا عندما تكبَر، من بينها العمل في مجال الرسم. أخبرتني صغيرتي أنها تريد عمل معرض فني كبير تشارك فيه بأعمالها الفنية، والتي تطلق على كثير منها “Masterpieces”. هي تحب الرسم كثيرًا، وأنا أشجع شغفها ومهارتها في ذلك دائمًا. أثنيت على فكرتها، وتحدثنا عن الأمر، ثم ناقشتها في جدوى ذلك كعمل تحقق من خلاله ربحًا ماديًّا. الحلول التي قدمتها “مريم” في حدود فهمها، هي اقتراحات مثيرة للضحك يعاقب عليها أي قانون! شرحت لصغيرتي أكثر، وبدأنا نتحدث عن خيارات مفيدة في هذا المجال.
أمثلة:
- رسامة قصص أطفال.
- مهندسة معمارية.
- مهندسة ديكور.
- مصممة ألعاب تعليمية.
- مصممة جرافيك.
ثم أخبرتها ببعض الحلول الواقعية لمشكلة معرضها الفني، وتحدثنا عن الرسم كمهارة يحتاجها كثير من أرباب المهن المختلفة. لا يعني هذا أن الرسم هو مجال العمل المستقبلي لصغيرتي، نحن نجرِّب ونتعرّف على أنفسنا، وغدًا نجرِّب أمرًا آخر.
كثيرة هي الكتب الأجنبية التي تخاطب الصغير حول ما يحتاجه من مهارات ليصبح طبيبًا أو مهندسًا أو عالمًا.
أمثلة:
“اُنظر، أنا عالم رياضيات”
“اُنظر، أنا مهندس”
“اُنظر، أنا عالم”
مسئولية كل فرد
يصعب علينا ألا نناقش مفهوم السلوك والأخلاق والقيم والمسئولية ونحن نتحدث عن مستقبل الصغار، ونحن هنا لا نرفع شعارات أو ندعي فضيلة فحال أمتنا وحالنا كأفراد هو تعريف لكل معاني الشتات، لذا علينا أن نتوقف أمام كل من هذه المعاني، حتى ونحن نتحدث عن المهارات وأوجه الشغف.
فالمحرك الأقوى من كل ما سبق من تعريفات ناقشناها، هو التوقف عند غايتنا كأفراد، عن صياغة وبناء الإنسان الذي نحن عليه اليوم، وعما يجب أن نسعى لتكوينه في نفوس الصغار.
لذا علينا أن نتوقف أمام نوع آخر من الأسئلة:
- ما هي فائدة عملي هذا لي وللناس؟
- ما هي المهارات التي أحتاجها كي أقدّم قيمة حقيقية في هذا المجال؟
- ما هو سلوكي كطبيب أو مهندس أو عالم؟
فلسفة التربية الإسلامية وأهدافها
لنتوقف مع كتابين من تأليف المفكر التربوي الكبير “د.ماجد عرسان الكيلاني” وهما: “أهداف التربية الإسلامية”، و”هكذا ظهر جيل صلاح الدين”.
في الكتاب الأول أكد الكاتب على مفهوم تربية الإنسان الصالح، واستعرض مفهوم الإرادة، وأهمية المُثل العليا في بناء الشخصية، وأوضح أن حال المسلم يجب أن يكون إما صالحًا أو مُصلِحًا، وهذا المعنى يستحق الكثير من التوقف حقًا.
في الكتاب الثاني يتناول الكاتب التغيُّرات المجتمعية والبناء الأخلاقي الذي سعى له الجيل الذي سبق جيل البطل العظيم “صلاح الدين”. توجد دولة كاملة وجيل كامل مهَّد لهذا المستقبل المشرف. ربما لا نتحدث عن الملك العادل نور الدين محمود، وعن الدولة الزنكية بعلمائها ومنهجها وانتصاراتها كثيرًا، لكنهم هم من مهَّدوا لجيل النصر؛ فالنهضة لا تتم بين ليلة وضحاها، إنما هي ثمرة نجنيها بصدق السعي، وسداد النية، والاجتهاد في العمل.
ربما تبدو نهاية هذا المقال بمعزل عن بدايته، لكن الحقيقة أن هذا هو الطريق الذي يجب أن نتوقف عنده وننتهي إليه في كل مرة نتحدث فيها عن مستقبل صغارنا؛ فمستقبل صغارنا هو مستقبل عالمنا، وهو مستقبل أمتنا.
انظر أيضًا:
- كتاب “تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية”| لـ د. ماجد الكيلاني.
- كتاب “فلسفة التربية الإسلامية” | لـ د. ماجد الكيلاني.
- قياس المهارات الحياتية | دليل مؤسسة “اليونيسيف – UNICEF”.
مقال ثري جدًا يُسلّط الضوء على موضوع مهم يجب أن ننتبه له جميعاً.
وأعجبني تسلسل المقال والنقاط القوية التي انتهى بها .
شكراً نوري 😊
شكراً أ.مروة 🌷
جزاك الله خيرًا 🌹
مقال مهم، وبه نقاط مهمة جدًا تحتاج للوقوف عندها كثيرًا وتأملها بدقة.
مقال جميل جدا .. قرأت تقريبا جميع كتب د.ماجد عرسان .. استفدت كثيرا منها في الأهداف العميقة للتربية