الأثر الخفي لقلم الكاتب

للبعض أثر خفِي وتأثير قويّ لا يمكننا تفسير سببه أو اكتشاف كُنْهِه.

هل جلست إلى أحدهم يومًا أو استمعت لحديثه، لتشعر بطاقة إيجابية تسري في عقلك وروحك؟

هل تحدثت مع أحدهم مرة عبر الهاتف، لتجد أنك كأنما تحمل جبالًا من الهمِّ فوق رأسك؟ 

إنه الأثر الخفي؛ فالبعض له أثر يسري مع صوته والتفاته، وحتى مع صمته ونظراته، والأكثر من ذلك أن الأثر ينتقل بين الحروف والكلمات وخلف السطور المكتوبة.  

فبعض الكُتّاب يملكون ما يسمى إشعاعًا أو تأثيرًا لا يملكه سواهم. 

فلنفكر بالأمر مليًّا.. عندما تقرأ مراجعة عن كتاب ما، وتجد كاتب المراجعة يكيل له من المحاسن، ويستخرج من العبر ما لا تجده في النص، لا تتعجب، فهو مثل الواقع تحت تأثير المخدر أو التنويم المغناطيسي. إنه حقًّا يرى ويشعر بما يقول من محاسن.

والأكثر دهشة أن تجد نفسك أيضًا واقعًا تحت تأثير اسم أو قلم أحدهم. أنا مثلك تمامًا، تفكَّرت في نفسي لأجد أنني أقع تحت التأثير المغناطيسي السِّحري لقلم البعض. 

الفكرة ببساطة أن بعض الشخصيات لهم تأثير خفِي يسري في الرسائل والقصص والكلمات، وحتى الصور، يُخضع من يتحدثون إليه. ليس سحرًا، لكنه علم.

في علم الفيزياء هناك ما يسمَّى بالحثِّ المزدوج، حيث يتأثر ملف ثانوى بملف أساسي، ويولد مجال مغناطيسي بمجرد الاقتراب منه، رغم أنه لا يمتلك مقومات إنتاج المجال المغناطيسي. والأكثر من هذا، أن مصباحًا قد يضيء بمجرد الاقتراب من مجال مغناطيسي، وتنتقل الطاقة ميكانيكيًا بدون الحاجة للتوصيل المباشر بينهما.

تحدث إلينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل 14 قرنًا من الزمان، وأشار إلى هذا الأثر، فقال فيما رواه أَبو موسى الأَشعريُّ، أَن النّبيَّ ﷺ قَالَ: “إِنَّما مَثَلُ الجلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً” متفقٌ عليه.

فذلك هو الأثر الذي يسري من المتحدث ويؤثر فيمن حوله.

تفكّر في نفسك أنت أيضًا، فقد “ترى الرجل، أو تحادثه، أو تجالسه، أو تسمع لمحاضرته، فيُشِع عليك نوعًا من الإشعاع يخالف الآخر كل المخالفة، قد تحسن التعبير عنه وقد لا تحسن؛ فهذا يشعّ عليك سرورًا وأريحية واطمئنانًا، وهذا يشع حزنًا ووجدًا ورقةً وحنانًا، وذاك يشع هيبة وجلالًا ووقارًا، وآخر يشع ضَعة وذلةً وهوانًا؛ وقد تحسُّ من رجل بنوع من الإشعاع تدركه وتستطعمه، ولكنك لا تستطيع وصفه، كما إذا أكلت كُمَّثرى وتذوقتها، وأردت أن تصف طعمها لمن لم يذقها”.

بالعودة إلى تأمل الحالة التى أطلقت عليها “التأثير الخفي”، والتي تحدَّث عنها الراحل أحمد أمين منذ ما يزيد عن نصف قرن في كتابه “صيد الخاطر”، وأطلق عليها اسم “الإشعاع”، قائلًا: “وآية هذا الإشعاع أنك تقرأ المقالة أو الكتاب، فيبعث عندك من المعاني ما لا تدلّ عليه الألفاظ من طريق الحقيقة ولا المجاز، بل ما بين السطور يشعّ كالسُّطور نفسها”.

ويبقي أن نقول أن الناشر أيضًا إنسان، ويقع تحت هذا التأثير الخفي. القارئ إنسان، وكذلك الأصدقاء والأهل والطلاب، ولكن ليس كل شخص يمتلك القوة السحريّة نفسها. 

إذن، تبقى قوة الأثر الخفي تسري في الكلمات المكتوبة والمنطوقة والمقروءة، كما تسري في الأنفاس والمجالس.